الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **
قال: هذا كما قلتَ، والاجتهاد لا يكون إلا على مطلوب، والمطلوب لا يكون أبداً إلا على عين قائمة تُطلب بدلالةٍ يُقصد بها إليها، أو تشبيهٍ على عين قائمة، وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسانُ الخبرَ، والخبرُ - من الكتاب والسنة - عينٌ يتأخَّى معناها المجتهدُ ليصيبه، كما البيتُ يتأخَّاه مَن غاب عنه ليصيبه، أو قَصَدَه بالقياس، وأن ليس لأحد أن يقول إلا من جهة الاجتهاد، والاجتهادُ ما وصفتَ من طلب الحق. فهل تجيز أنت أن يقول الرجل: أستحسنُ بغير قياس؟ فقلت: لا يجوز هذا عندي - والله أعلم - لأحد، وإنما كان لأهل العلم أن يقولوا دون غيرهم، لأن يقولوا في الخبر باتباعه فيما ليس فيه الخبرُ بالقياس على الخبر. ولو جاز تعطيلُ القياس جاز لأهل العقولِ من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان. وإن القول بغير خبر ولا قياس لَغَير جائز، بما ذكرتُ من كتاب الله وسنة رسوله، ولا في القياس. فقال: أما الكتاب والسنة فيدلان على ذلك، لأنه إذا أمر النبي بالاجتهاد، فالاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلبُ الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائلُ هي القياس، قال: فأين القياس مع الدلائل على ما وصفتَ؟ قلت: ألا ترى أن أهل العلم إذا أصاب رجل لرجل عبداً لم يقولوا لرجل: أقم عبداً ولا أمةً إلا وهو خابرٌ بالسوق، ليُقيم معنيين: بما يُخبر كَم ثمنُ مثله في يومه؟ولا يكون ذلك إلا بأن يَعتبر عليه بغيره، فيقيسه عليه، ولا يقال لصاحب سلعة: أقم إلا وهو خابرٌ. ولا يجوز أن يقال لفقيه عدلٍ غيرِ عالم بقِيَم الرقيق: أقم هذا العبدَ، ولا هذه الأمةَ ولا إجازةَ هذا العاملِ، لأنه إذا أقامه على غير مثال بدلالةٍ على قيمته كان متعسفاً. فإذا كان هذا هكذا فيما تَقِلّ قيمته من المال ويَيْسُرُ الخطأ فيه على المُقَام له والمقام عليه -: كان حلالُ الله وحرامه أولى أن لا يقال فيهما بالتعسُّف والاستحسان. وإنما الاستحسان تلذُّذ. ولا يقول فيه إلا عالم بالأخبار، عاقلٌ للتشبيه عليها. وإذا كان هذا هكذا، كان على العالم أن لا يقول إلا من جهة العلم، - وجهةُ العلم الخبر اللازم - بالقياس بالدلائل على الصواب حتى يكون صاحب العلم أبداً متبعاً خبراً، وطالبَ الخبر بالقياس، كما يكون متبعَ البيت بالعِيان، وطالبً قصْدَه بالاستدلال بالأعلام مجتهداً. ولو قال بلا خبر لازم و قياسٍ كان أقربَ من الإثم من الذي قال وهو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم جائزاً ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهةُ العلمِ بعدُ الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والآثارُ، وما وصفتُ من القياس عليها. ولا يقيس إلا من جمع الآلةَ التي له القياسُ بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله: فرضِه، وأدبِه، وناسخِه، ومنسوخِه، وعامِّه، وخاصِّه، وإرشاده. ويَستدل على ما احتمل التاويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماعٌ فبالقياس. ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب. ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرِّق بين المشتبه، ولا يَعْجَلَ بالقول به دون التثبيت. ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزدادُ به تثبيتاً فيما اعتقده من الصواب. وعليه في ذلك بلوغُ غاية جهده، والإنصافُ من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك. ولا يكون بما قال أَعنَى منه بما خالفه، حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، إن شاء الله. فأما مَن تمَّ عقله، ولم يكن عالماً بما وصفنا، فلا يحلُّ له أن يقول بقياس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه، كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه. ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة: فليس له أن يقول أيضاً بقياس، لأنه قد يذهب عليه عَقْل المعاني. وكذلك لو كان حافظاً مقصِّرَ العقلِ، أو مقصِّراً عن علم لسان العرب: لم يكن له أن يقيس من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس. ولا نقول يَسَع - هذا والله أعلم - أن يقول أبداً إلا اتباعاً ولا قياساً. فإن قال قائل: فاذكر من الأخبار التي تقيس عليها، وكيف تقيس؟ قيل له إن شاء الله: كل حكم لله أو لرسوله وُجِدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكِم به لمعنى من المعاني، فنزلت نازلة ليس فيها نص حكمٍ: حُكم فيها حكمُ النازلة المحكومِ فيها، إذا كانت في معناها. والقياس وجوه يجمعها القياس ، ويتفرَّق بها ابتداءُ قياسِ كل واحد منهما، أو مصدرُه، أو هما، وبعضُهما أوضحُ من بعض. فأقوى القياس أن يحرِّم الله في كتابه أو يحرم رسول الله القليل من الشيء، فيُعْلمَ أن قليله إذا حُرِّم كان كثيره مثلَ قليله في التحريم أو أكثرَ، بفضل الكثرة على القلة. وكذلك إذا ُحمِد على يسير من الطاعة، كان ما هو أكثرُ منها أولى أن ُيحمد عليه. وكذلك إذا أباح كثيرَ شيء كان الأقل منه أولى أن يكون مباحاً. فإن قال: فاذكر من كل واحد من هذا شيئاً يبين لنا ما في معناه؟ قلت: قال رسول الله: إن الله حرّم من المؤمن دمه وماله، وأن يُظَن به إلا خيراً [(به) نائب فاعل (يُظن) وهو جائز عند الكوفيين ولا يجيزه الجمهور وسيأتي نظائر هذا في كلام الشافعي نستغني بالإشارة هنا عن إعادتها.] فإذا حرّم أن يُظن به ظناً مخالفاً للخير يُظهره: كان ما هو أكثر من الظن المُظهَر ظناً من التصريح له بقول غير الحق أولى أن يحُرَّم، ثم كيف ما زِيد في ذلك كان أحرَم. َ قال الله: فكان ما هو أكثر من مثقال ذرة من الخير أحمَدَ، وما هو أكثر من مثقال ذرةٍ من الشر أعظمَ في المأثم. وأباح لنا دماءَ أهل الكفر المقاتِلين غيرِ المعاهَدين، وأموالهَم، ولم يحَظُرْ علينا منها شيئاً أذكرُهُ، فكان ما نِلْنا من أبدانهم دون الدماء، ومن أموالهم دون كلِّها: أولى أن يكون مباحاً. وقد يمتنع بعض أهل العلم من أن يسمي هذا قياساً ويقول: هذا معنى ما أحل الله، وحرم، وحمِد، وذمّ، لأنه داخل في جملته، فهو بعينه، ولا قياسٌ على غيره. ويقول مثل هذا القول في غير هذا، مما كان في معنى الحلال فأُحل، والحرام فحُرم. ويمتنع أن يُسمَّى القياس إلا ما كان يحتمل أن يُشَبَّه بما احتمل أن يكون فيه شَبَهاً [ استعمل الشافعي هنا وفي مواضع اسم كان منصوباً إذ تقدم عليه الجار والمجرور.] من معنيين مختلفين، فَصَرَفَه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر. ويقول غيرهم من أهل العلم: ما عدا النصَّ من الكتاب أو السنة، فكان في معناه فهو قياس، والله اعلم. فإن قال قائل: فاذكر من وجوه القياس ما يدل على اختلافه في البيان والأسبابِ، والحجة فيه سوى هذا الأولِ، الذي تدرِك العامة علمه؟ قيل له إن شاء الله: قال الله: وقال: فأمر رسول الله هندَ بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدَها - وهم ولده - بالمعروف بغير أمره. قال: فدلَّ كتاب الله وسنة نبيه أن على الوالد رَضاعَ ولده، ونفقتَهم صغاراً. فكان الولد من الوالد فجُبر على صلاحه في الحال التي لا يُغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألا يغني نفسه بكسبٍ ولا مالٍ، فعلى ولده صلاحُه في نفقته وكسوته قياساً على الولد. وذلك أن الولد من الوالد، فلا يضيِّع شيئاً هو منه، كما لم يكن للولد أن يضيع شيئاً من ولده، إذ كان الولدُ منه، وكذلك الوالدون وإن بَعُدُوا، والولدُ وإن سَفَلُوا في هذا المعنى، والله أعلم، فقلت: ينفق على كل محتاج منهم غيرِ محترِف، وله النفقة على الغني المحترف. وقضى رسول الله في عبدٍ دُلِّس للمبتاع فيه بعيب فظهر عليه بعد ما استغلَّه أن للمبتاع ردَّه بالعيب، وله حبسُ الغلّة بضمانه العبد. َ فاستدللنا إذا كانت الغلة لم يقع عليها صفقةُ البيع، فيكونَ لها حصة من الثمن، وكانت في ملك المشتري في الوقت الذي لو مات فيه العبد مات من مال المشتري: أنه إنما جعلها له لأنها حادثة في ملكه وضمانه، فقلنا: كذلك في ثمر النخل، ولبن الماشية وصوفها وأولادها، وولدِ الجارية، وكلِّ ما حدث في مِلك المشتري وضمانه، وكذلك وطءُ الأمة الثيِّب وخدمتُها. قال: فتفرَّق علينا بعض أصحابنا وغيرُهم في هذا. فقال بعض الناس: الخراجُ والخدمة والمتاع غيرُ الوطء من المملوك والمملوكةِ لمالكها الذي اشتراها، وله ردُّها بالعيب، وقال: لا يكون له أن يردَّ الأمة بعد أن يطأها، وإن كانت ثيباً، ولا يكون له ثمر النخل، ولا لبن الماشية، ولا صوفها، ولا ولد الجارية، لأن كل هذا - من الماشية والجارية والنخل والخراج -: ليس بشيء من العبد. فقلت لبعض من يقول هذا القول: أرأيت قولك: الخراجُ ليس من العبد، والثمرُ من الشجر، والولدُ من الجارية: أليسا يجتمعان في أن كل واحد منهما كان حادثاً في ملك المشتري، لم تقع عليه صفقة البيع؟ قال: بلى، ولكن يتفرقان في أن ما وصل إلى السيد منهما مفترق، وتمر النخل منها، وولد الجارية والماشية منها، وكسبُ الغلام ليس منه، إنما هو شيء تحَرَّف فيه فاكتسبه. فقلت له أرايت إن عارضك معارض بمثل حجتك فقال: قضى النبي أن الخراج بالضمان، والخراج لا يكون إلا بما وصفت من التحرُّف، وذلك يشغله عن خدمة مولاه، فيأخذ له بالخراج العِوَض من الخدمة ومن نفقته على مملوكه، فإن وُهِبَت له هبة، فالهبة لا تشغله عن شيء: لم تكن لمالكه الآخر، ورُدَّت إلى الأول؟ قال: لا، بل تكون للآخِر الذي وُهبت له، وهو في ملكه. قلت: هذا ليس بخراج، هذا من وجه غير الخراج. قال: وإنْ، فليس من العبد. قلتُ: ولكنه يفارق معنى الخراج، لأنه من غير وجه الخراج؟ قال: وإن كان من غير وجه الخراج، فهو حادث في ملك المشتري. قلت: وكذلك الثمرة والنِّتاج حادث في ملك المشتري، والثمرة إذا باينت النخلة، فليست من النخلة، قد تباع الثمرة، ولا تتبعها النخلة، والنخلةُ ولا تتبعها الثمرة، وكذلك نِتاجُ الماشية. والخراجُ أولى أن يُرد مع العبد، لأنه قد يُتكلف فيه ما تبعه من ثمر النخلة، ولو جاز أن يُرد واحد منهما. وقال بعض أصحابنا بقولنا في الخراج، ووطء الثيب، وثمر النخل، وخالفنا في ولد الجارية. وسواءٌ ذلك كله، لأنه حادث في ملك المشتري، لا يستقيم فيه إلا هذا، أو لا يكون لمالك العبد المشتري شيء إلا الخراجُ والخدمة، ولا يكون له ما وُهب للعبد، ولا ما التَقط، ولا غيرُ ذلك من شيء أفاده من كَنز ولا غيره، إلا الخراجُ والخدمة، ولا ثمرُ النخل، ولا لبن الماشية، ولا غير ذلك، لأن هذا ليس بخراج. ونهى رسول الله عن الذهب بالذهب، والتمر بالتمر، والبُرِّ بالبر، والشعير بالشعير إلا مثلاً بمثل يداً بيد. فلما خَرَجَ رسول الله في هذه الأصناف المأكولة التي شَحّ الناس عليها، حتى باعوها كيلاً: بمعنيين: أحدهما: أن يباع منها شيء بمثله أحدُهما نقد، والآخر دَين، والثاني: أن يُزاد في واحد منهما شيء على مثله يداً بيد: وكان ما كان في معناها محرّما قياساً عليها. وذلك كل ما أُكل مما بيع موزوناً، لأني وجدتها مجتمعةَ المعاني في أنها مأكولة ومشروبة، والمشروبُ في معنى المأكول، لأنه كلَّه للناس إما قوت وإما غذاء وإما هما، ووجدت الناس شَحّوا عليها حتى باعوها وزناً، والوزنُ أقربُ من الإحاطة من الكيل، وفي معنى الكيل، وذلك مثل العسل والسمن والزيت والسكر وغيره، مما يؤكل ويُشرب ويباع موزوناً. فإن قال قائل: أفيحتمل ما بيع موزوناً أن يقاس على الوزن من الذهب والوَرِق، فيكونَ الوزن بالوزن أولى بأن يقاس من الوزن بالكيل؟ قيل - إن شاء الله - له: إن الذي منعنا مما وصفتَ - من قياس الوزن بالوزن - أن صحيح القياس إذا قِست الشيء بالشيء أن تحكم له بحكمه، فلو قست العسل والسمن بالدنانير والدراهم، وكنت إنما حرّمت الفضل في بعضها على بعض إذا كانت جنساً واحدا قياساً على الدنانير والدراهم: أكان يجوز أن يُشترى بالدنانير والدراهم نقداً عسلاً وسمناً إلى أجل؟ فإن قال: يجيزه بما أجازه به المسلمون. قيل إن شاء الله: فإجازة المسلمين له دلتني على أنه غير قياس عليه، لو كان قياساً عليه كان حكمُه حكمَه، فلم يحل أن يباع إلا يداً بيد، كما لا تحل الدنانير بالدراهم إلا يداً بيد. فإن قال: أفتجدك حين قسته على الكيل حكمتَ له حكمه؟ قلت: نعم، لا أفرّق بينه في شيء بحال. قال: أفلا يجوز أن تشتري مُدّ حِنطة نقداً بثلاثة أرطال زيت إلى أجل. قلت: لا يجوز أن يُشترى، ولا شيءٌ من المأكول والمشروب بشيء من غير صنفه إلى أجل. حكمُ المأكول المكيلِ حكمُ المأكول الموزون. ِ قال: فما تقول في الدنانير والدراهم؟ قلت: محرَّمات في أنفسها، لا يقاس شيء من المأكول عليها، لأنه ليس في معناها، والمأكولُ المكيلُ محرَّم في نفسه، ويقاس به ما في معناه من المكيل والموزون عليه، لأنه في معناه. فإن قال: فافرُق بين الدنانير والدراهم؟ قلت: لم أعلم مخالفاً من أهل العلم في إجازة أن يُشترى بالدنانير والدراهم الطعامُ المكيلُ والموزون إلى أجل، وذلك لا يحل في الدنانير بالدراهم، وإني لم أعلم منهم مخالفاً في أني لو علمت مَعدِناً فأدّيت الحق فيما خرج منه، ثم أقامت فضته أو ذهبه عندي دهرِي: كان علي في كل سنة أداءُ زكاتها، ولو حصدت طعامَ أرضي، فأخرجت عُشره أقام عندي دهرَه: لم يكن علي فيه زكاة، وفي أني لو استهلكت لرجل شيئاً قُوِّم علي دنانيرَ أو دراهمَ، لأنها الأثمانُ في كل مالٍ لمسلم إلا الديات. فإن قال: هكذا. قلتُ: فالأشياء تتفرق بأقل مما وصفت لك. ووجدنا عامّاً في أهل العلم أن رسول الله قضى في جناية الحر المسلم خطأً بمائة من الإبل على عاقلة الجاني وعامَّاً فيهم أنها في مُضِيّ ثلاث سنين، في كل سنة ثلثُها، وبأسنانٍ معلومة. فدَلَّ على معاني من القياس، سأذكر منها - إن شاء الله - بعض ما يحضرني: إنا وجدنا عاماً في أهل العلم أن ما جنى الحرُّ المسلم من جنايةِ عمدٍ أو فسادِ مال لأحد على نفس أو غيره: ففي ماله دون عاقلته، وما كان من جنايةٍ في نفسٍ خطأً فعلى عاقلته. ثم وجدناهم مجمعين على أن تَعقل العاقلة ما بلغ ثلث الدية من جناية في الجراح فصاعداً. ثم افترقوا فيما دون الثلث: فقال بعض أصحابنا: تعقل العاقلة الموضِحَة [ الموضحة: الجرح الذي يبدي وضح العظم أي بياضه.] وهي نصف العشر فصاعداً، ولا تعقل ما دونها. فقلت لبعض من قال: تعقل نصف العشر، ولا تعقل ما دونه: هل يستقيم القياس على السنة إلا بأحد وجهين؟ قال: وما هما؟ قلت: أن تقول: لما وجدت النبي قضى بالدية على العاقلة قلت به اتباعاً، فما كان دون الدية ففي مال الجاني، ولا تقيس على الدية غيرها، لأن الأصل: الجاني أولى أن يَغْرَمَ جنايته من غيره، كما يغرمها في غير الخطأ في الجراح، وقد أوجب الله على القاتل خطأً ديةً ورقبةً، فزعمت أن الرقبة في ماله، لأنها من جنايته، وأخرجت الدية من هذا المعنى اتباعاً، وكذلك أتَّبع في الدية، وأصرف بما دونها إلى أن يكون في ماله، لأنه أولى أن يَغرم ما جنى من غيره، وكما أقول في المسح على الخفين: رخصةٌ: بالخبر عن رسول الله، ولا أقيس عليه غيرَه. أو يكونَ القياس من وجه ثاني؟ قال: وما هو؟ قلت: إذ أخرج رسول الله الجناية خطأً على النفس مما جنى الجاني على غير النفس، وما جنى على نفس عمداً، فجعل على عاقلته يضمنونها، وهي الأكثر: جَعَلْت على عاقلته يضمنون الأقل من جناية الخطأ، لأن الأقل أولى أن يضمنوه عنه من الأكثر، أو في مثل معناه. قال: هذا أولى المعنيين أن يقاس عليه، ولا يُشْبهُ هذا المسحَ على الخفين. فقلت له: هذا كما قلت - إن شاء الله - وأهل العلم مجمعون على أن تغرم العاقلة الثلث وأكثر، وإجماعهم دليل على أنهم قد قاسوا بعضَ ما هو أقلُّ من الدية بالدية! قال: أجل. فقلت له: فقد قال صاحبنا: أحسنُ ما سمعت أن تَغرم العاقلة ثلث الدية فصاعداً، وحكى أنه الأمرُ عندهم، أفرأيت إن احتجّ له محتجّ بحجتين؟ قال: وما هما؟ قلت: أنا وأنت مجمعان على أن تغرم العاقلة الثلث فأكثر، ومختلفان فيما هو أقل منه، وإنما قامت الحجة بإجماعي وإجماعك على الثلث، ولا خبر عندك في أقلَّ منه: ما تقول له؟ قال: أقول إن إجماعي من غير هذا الوجه الذي ذهبتَ إليه، إجماعي إنما هو قياس على أن العاقلة إذا غَرِمت الأكثر ضَمنَت ما هو أقلُّ منه، فمن حَدّ لك الثلث؟ أرأيت إن قال لك غيرك: بل تغرم تسعةَ أعشار، ولا تغرم ما دونه؟ قلت: فإن قال لك: فالثلث يَفدح مَن غَرِمه، قلت: يُغرم معه أو عنه لأنه فادح، ولا يُغرَم ما دونه غيرُ فادح. قال: أفرأيت من لا مال له إلا درهمين، أما يَفدحه أن يَغرم الثلث والدرهمَ، فيبقى لا مال له؟ أرأيت من له دنيا عظيمةٌ، هل يفدحه الثلث؟ فقلت له: أفرأيت لو قال لك: هو لا يقول لك الأمر عندنا إلا والأمر مجتمَعٌ عليه بالمدينة. قال: والأمر المجتَمَع عليه بالمدينة أقوى من الأخبار المنفردة؟! قال: فكيف تَكلّفَ أن حكى لنا الأضعفَ من الأخبار المنفردة، وامتنع أن يحكيَ لنا الأقوى اللازمَ من الأمر المجتَمَع عليه؟! قلنا: فإن قال لك قائل: لقلة الخبر وكثرة الإجماع عن أن يحُكى، وأنت قد تصنع مثل هذا، فتقول: هذا أمر مجتَمَع عليه! قال: لستُ أقول ولا أحدٌ من أهل العلم هذا مجتمع عليه : إلا لما تَلْقى عالماً أبداً إلا قاله لك وحكاه عن من قبله، كالظهرُ أربعٌ، وكتحريم الخمر، وما أشبه هذا، وقد أجده يقول: المجمع عليه وأجد من المدينة من أهل العلم كثيراً يقولون بخلافه، وأجد عامة أهل البلدان على خلاف ما يقول: المجتمع عليه قال: فقلت له: فقد يلزمك في قولك لا تعقل ما دون الموضِحَة مثلُ ما لزمه في الثلث. فقال لي: إن فيه علةً بأن رسول الله لم يقض فيما دون الموضحة بشيء. فقلت له: أفرأيت إن عارضك معارِض فقال: لا أقضي فيما دون الموضحة بشيء، لأن رسول الله لم يقض فيه بشيء؟ قال: ليس ذلك له، وهو إذا لم يقض فيما دونها بشيء، فلم يَهدُر ما دونها من الجِرَاح. قال: وكذلك يقول لك: هو إذا لم يقل: لا تعقِل العاقلة ما دون الموضحة، فلم يحرِّم أن تعقل العاقلة ما دونها، ولو قضى في الموضحة، ولم يقضِ فيما دونها على العاقلة ما منع ذلك العاقلةَ أن تَغرَم ما دونها، إذا غَرِمت الأكثرَ غرمت الأقلَّ، كما قلنا نحن وأنت، واحتججتَ على صاحبنا، ولو جاز هذا لك، جاز عليك. ولو قضى النبي بنصف العُشر على العاقلة: أن يقول قائل: تغرم نصف العشر والديةَ، ولا تغرم ما بينهما، ويكون ذلك في مال الجاني؟! ولكن هذا غيرُ جائز لأحد، والقول فيه أن جميع ما كان خطأ فعلى العاقلة، وإن كان درهماً. وقلت له: قد قال بعض أصحابنا: إذا جنى الحر على العبد جنايةً فأتى على نفسه أو ما دونها خطأ، فهي في ماله دون عاقلته، ولا تعقل العاقلة عبداً، فقلنا: هي جناية حر، وإذ قضى رسول الله أن عاقلة الحر تحمل جنايته في حر إذا كانت غُرْماً لاحقاً بجناية خطأ، وكذلك جنايتُه في العبد إذا كانت غُرْماً من خطأ، والله أعلم، وقلتَ بقولنا فيه، وقلتَ: من قال لا تعقل العاقلة عبداً احتمل قوله لا تعقل جناية عبدٍ، لأنها في عنقه دون مال سيده غيرِه [(غيره) بدل من (سيده) ] فقلتَ بقولنا، ورأيتَ ما احتججتُ به من هذا حجةً صحيحةً داخلة في معنى السنة؟ قال: أجل. قال: وقلتُ له: وقال صاحبك وغيره من أصحابنا: جِرَاح العبد في ثمنه كجِرَاح الحر في ديته، ففي عينه نصفُ ثمنه، وفي موضحته نصفُ عشر ثمنه، وخالفْتَنَا فيه، فقلتَ: في جراح العبد ما نَقَصَ من ثمنه. قال: فأنا أبدأ، فأسألك عن حجتك في قول جِرَاح العبد في ديته: أخبراً قلته أم قياساً؟ قلت: أما الخبر فيه، فعن سعيد بن المسيب. قال: فاذكره؟ قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال: عَقْلُ العبد في ثمنه، فسمعته منه كثيراً هكذا، وربما قال: كجراح الحر في ديته، قال ابن شهاب: فإن ناساً يقولون: يُقَوَّم سلعةً. فقال: إنما سألتك خبراً تقوم به حجَّتُك. فقلت: قد أخبرتك أني لا أعرف فيه خبراً عن أحدٍ أعلى من سعيد بن المسيب. قال: فليس في قوله حجة. قال: وما ادعيتُ ذلك فتردَّه عليّ! قال: فاذكر الحجة فيه؟ قلت: قياساً على الجناية على الحر. قال: قد يفارق الحرَّ في أن دية الحر مؤقَّتة، وديتُه ثمنُهُ، فيكونُ بالسِّلَع من الإبل والدواب وغير ذلك أشبهَ، لأن في كل واحد منهما ثمنَه. ُ فقلت: فهذا حجة لمن قال: لا تعقل العاقلة ثمن العبد: عليك. قال: ومن أين؟ قال: يقول لك: لمَ قلتَ تعقل العاقلة ثمن العبد إذا جنى عليه الحر قيمته، وهو عندك بمنزلة الثمن؟ ولو جنى على بعير جناية ضمِنها في ماله؟ قال: فهو نفسٌ محرمة. قلت: والبعير نفس محرمة على قاتله؟ قال: ليست كحرمة المؤمن. قلت: ويقول لك، ولا العبدُ كحرمة الحر في كل أمره. فقلت: فهو عندك مجُاَمِعُ الحرِّ في المعنى، أفتعقله العاقلة؟ قال: ونعم. قلت: وحَكَمَ الله في المؤمن يُقتل خطأً بديةٍ وتحريرِ رقبة؟ قال: نعم. قلت: وزعمتَ أن في العبد تحريرَ رقبةٍ كهي في الحر وثمنً، وأن الثمن كالدية؟ قال: نعم. قلت: وزعمتَ أنك تقتل الحرَّ بالعبد؟ قال: نعم. قلت: وزعمنا أنا نقتل العبدَ بالعبد؟ قال: وأنا أقوله. قلت: فقد جامَعَ الحرَّ في هذه المعاني عندنا وعندك، في أن بينه وبين المملوك قصاصاً في كل جُرح، وجامَعَ البعير في معنى أن ديتَه ثمنُهُ، فكيف اخترتَ في جراحته أن تجعلها كجراحة بعيرٍ، فتجعل فيه ما نَقَصَه، ولم تجعل جراحته في ثمنه كجراح الحر في ديته؟ وهو يجُامع الحر في خمسة معاني، ويفارقه في معنى واحد؟ أليس أن تقيسه على ما يجامعه في خمسة معاني أولى بك من أن تقيسه على جامعه على معنى واحد؟! مع أنه يجُامع الحر في أكثرَ من هذا: أن ما حُرم على الحر حُرم عليه، وأن عليه الحدودَ والصلاةَ والصوم وغيرها من الفرائض، وليس من البهائم بسبيل!! قال: رأيتُ ديتَه ثمنَه؟ قلت: وقد رأيتَ دية المرأة نصف دية الرجل، فما منع ذلك جراحَهَا أن تكون في ديتها، كما كانت جراح الرجل في ديته؟! وقلت له: إذا كانت الدية في ثلاث سنين إبلاً أفليس قد زعمتَ أن الإبل لا تكون بصفة دَيناً؟ فكيف أنكرت أن تُشترى الإبل بصفة إلى أجل؟ ولم تقيسه [ (لم) إما أن تكون مهملة على لغة أو أن تكون عاملة والياء إشباع للكسرة.] على الدية، ولا على الكتابة ولا، على المهر، وأنت تجيز في هذا كله أن تكون الإبل بصفة دَيناً؟! فخالفت فيه القياس، وخالفتَ الحديث نصاً عن النبي: أنه استسلف بعيراً، ثم أمر بقضائه بعد؟! قال: كرهه ابن مسعود. فقلنا: وفي أحد مع النبي حجة؟! قال: لا، إن ثبت عن النبي. قلت: هو ثابت باستسلافه بعيراً وقضاه خيراً منه، وثابت في الديات عندنا وعندك، هذا في معنى السنة. قال: فما الخبر الذي يقاس عليه؟ قلت: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع: ( أن النبي استسلف من رجل بعيراً فجاءته إبل، فأمرني أن أقضيه إياه، فقلت: لا أجد في الإبل إلا جملاً خِياراً، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً )[ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك في الموطأ.] قال: فما الخبر الذي لا يقاس عليه؟ قلت: ما كان لله فيه حكمٌ منصوص، ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيفٍ في بعض الفرض دون بعض: عُمِلَ بالرخصة فيما رخَّص فيه رسول الله دون ما سواها، ولم يُقَس ما سواها عليها، وهكذا ما كان لرسول الله من حكم عام بشيء، ثم سَن سنة تفارق حكم العام. قال: وفي مثل ماذا؟ قلت: فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة من نومه، فقال: { فقصد قصْد الرجلين بالفرض، كما قَصَدَ قصْد ما سواهما في أعضاء الوضوء. فلما مسح رسول الله على الخفين لم يكن لنا - والله أعلم - أن نمسح على عمامة، ولا بُرْفُع، ولا قُفَّازين: قياساً عليهما، وأثبتنا الفرض في أعضاء الوضوء كلها، وأرخصْنا بمسح النبي في المسح على الخفين، دون ما سواهما. قال: فتعدُّ هذا خلافاً للقُرَآن؟ قلت: لا تخالف سنة لرسول الله كتاب الله بحال. قال: فما معنى هذا عندك؟ قلت: معناه أن يكون قَصَدَ بفرض إمساس القدمين الماءَ مَن لا خُفَّي عليه لَبِسَهما كاملَ الطهارة. قال: أوَ يجوز هذا في اللسان؟ قلت: نعم، كما جاز أن يقوم إلى الصلاة من هو على وضوء، فلا يكون المراد بالوضوء، استدلالاً بأن رسول الله صلى صلاتين وصلوات بوضوء واحد. وقال الله: فدلت السنة على أن الله لم يرد بالقطع كل السارقين. فكذلك دلت سنة رسول الله بالمسح أنه قصد بالفرض في غسل القدمين من لا خُفَّي عليه لبسهما كاملَ الطهارة. قال: فما مثلُ هذا في السنة؟ قلت: (نهى رسول الله عن بيع التمر بالتمر إلا مِثْلاً بمثل وسئل عن الرُّطَب بالتمر؟ فقال: أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ فقيل: نعم، فنهى عنه). و ( نهى عن المزابنة )، وهي كل ما عُرِف كيلُه منه، وهذا كله مجتَمِع المعاني، (ورخص أن تُبَاع العرايا بخَرْصها تمراً يأكلها أهلها رُطَبَاً) فرخَّصنا في العرايا بإرخاصه، وهي بيع الرطب بالتمر، وداخلةٌ في المزابنة بإرخاصه، فأثبتنا التحريم محرماً عاماً في كل شيء من صنف واحد مأكول، بعضُهُ جُزَاف وبعضه بكيل: للمزابنة، وأحللنا العرايا خاصة بإحلاله من الجملة التي حَرَّم، ولم نبطل أحد الخبرين بالآخر، ولم نجعله قياساً عليه. قال: فما وجه هذا؟ قلت: يحتمل وجهين: أولاهما به عندي - والله أعلم - أن يكون ما نهى عنه جملةً أراد به ما سوى العرايا، ويحتمل أن يكون أَرْخص فيها بعد وجوبها في جملة النهي، وأيَّهما كان فعلينا طاعته بإحلال ما أحل، وتحريم ما حَرَّم. وقضى رسول الله بالدية في الحر المسلم يُقتل خطأ مائة من الإبل، وقضى بها على العاقلة. وكان العمد يخالف الخطأ في القَوَد والمأثَم، ويوافقه في أنه قد تكون فيه دية. فلما كان قضاء رسول الله في كل امرئ فيما لزمه، إنما هو في ماله دون مال غيره، إلا في الحر يُقتل خطأ: قضينا على العاقلة في الحر يُقتل خطأ ما قضى به رسول الله، وجعلنا الحر يُقتل عمدا إذا كانت فيه دية: في مال الجاني، كما كان كل ما جنى في ماله غيرَ الخطأ، ولم نقس ما لزمه من غُرْم بغير جراح خطأٍ على ما لزمه بقتل الخطأ. فإن قال قائل: ما الذي يَغرم الرجلُ من جنايته، وما لَزِمَه غيرُ الخطأ؟ قلت: قال الله: وقال: وقال: وقال: وقال: وقضى رسول الله على (أن على أهل الأموال حِفظَهَا بالنهار، وما أفسَدَت المواشي بالليل، فهو ضامن على أهلها)[ رواه مالك في الموطأ 2/220 وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان وصححه الحاكم والبيهقي.] فدل الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه: أن هذا كله في مال الرجل، بحقٍّ وجب عليه لله، أو أوجبه الله عليه للآدميين، بوجوهٍ لَزِمَته، وأنه لا يُكَلف أحدٌ غُرْمَه عنه. ولا يجوز أن يجني رجل، ويَغرم غير الجاني، إلا في الموضع الذي سَنَّه رسول الله فيه خاصة من قتل الخطأ وجنايته على الآدميين خطأً. والقياس فيما جنى على بهيمة أو متاع أو غيره - على ما وصفت -: أن ذلك في ماله، لأن الأكثر المعروفَ أن ما جنى في ماله، فلا يقاس على الأقل، ويُترك الأكثر المعقول، ويُخَص الرجل الحر يَقتل الحرَّ الخطأ، فتعقله العاقلة، وما كان من جناية خطأً على نفس وجُرح: خبراً وقياساً. وقضى رسول الله في الجنين بغُرَّة عبد أو أمة، وقَوَّم أهلُ العلم الغرة خمساً من الإبل. قال: فلما لم يُحكَا أن رسول الله سأل عن الجنين: أَذَكَر هو أم أنثى؟ إذ قضى فيه سَوَّى بين الذكر والأنثى إذا سقط ميتا، ولو سقط حياً فمات جَعَلوا في الرجل مائة من الإبل، وفي المرأة خمسين. فلم يجز أن يقاس على الجنين شيء من قِبَل أن الجنايات على من عُرِفَت جنايته مُوَقَّتاتٌ معروفات. مفروقٌ فيها بين الذكر والأنثى. وأن لا يختلف الناس في أن لو سقط الجنين حياً، ثم مات كانت فيه دية كاملة، إن كان ذكراً فمائةٌ من الإبل، وإن كانت أنثى فخمسون من الإبل، وأن المسلمين - فيما علمت - لا يختلفون أن رجلاً لو قَطَعَ الموتى لم يكن في واحد منهم دِيَة، ولا أرْش، والجنينُ لا يعدو أن يكون حياً أو ميتاً. فلما حكم فيه رسول الله بحكمٍ فارق حكم النفوس، الأحياءِ والأمواتِ، وكان مغيَّبَ الأمر: كان الحكمُ بما حَكَمَ به على الناس اتباعاً لأمر رسول الله. قال فهل تعرف له وجهاً؟ قلت: وجهاً واحداً، والله أعلم. قال: وما هو؟ قلت: يقال: إذا لم تُعرف له حياة، وكان لا يُصلى عليه، ولا يرث: فالحكمُ فيه أنها جناية على أمه، وقَّت فيها رسول الله شيئاً قوَّمه المسلمون، كما وقَّت في الموضِحة. قال: فهذا وجه. قلت: وجهٌ لا يُبين الحديثُ أنه حَكَمَ به له، فلا يصح أن يقال: إنه حكم به له، ومن قال: إنه حكم به لهذا المعنى قال: هو للمرأة دون الرجل، هو للأم دون أبيه، لأنه عليها جُنِي، ولا حكم للجنين يكون به موروثاً، ولا يُورَث مَن لا يَرِث. قال: فهذا قول صحيح؟ قلت: الله أعلم. قال: فإن لم يكن هذا وجهَه، فما يقال لهذا الحكم؟ قلنا: يقال له: سنةٌ تُعُبِّد العبادُ بأن يحكموا بها. وما يقال لغيره مما يدل الخبر على المعنى الذي له حُكم به؟ قيل: حُكْمُ سنة تُعُبِّدوا بها لأمر عرفوه بمعنى الذي تُعُبِّدوا له في السنة، فقاسوا عليه ما كان في مثل معناه. قال: فاذكر منه وجهاً غيرَ هذا إن حضرك تجمع فيه ما يقاس عليه، ولا يقاس؟ فقلت له: قضى رسول الله في المُصَرَّاة [ هي الشاة التي ُيحبس اللبن في ضرعها.] من الإبل والغنم إذا حَلَبَها مشتريها: ( إن أحبَّ أمسكها، وإن أحب ردَّها وصاعاً من تمر) [ رواه مالك في الموطأ 2/170 والشيخان.]، وقضى ( أن الخراج بالضمان) فكان معقولاً في ( الخراج بالضمان ) أني إذا ابتعت عبداً فأخذت له خَرَاجاً ثم ظهرْتُ منه على عيب يكونُ لي ردُّه: فما أخذت من الخراج والعبدُ في مِلْكي ففيه خصلتان: إحداهما: أنه لم يكن في ملك البائع، ولم يكن له حصة من الثمن، والأخرى: أنها في ملكي، وفي الوقت الذي خرج فيه العبد من ضمان بائعه إلى ضماني، فكان العبد لو مات مات من مالي وفي ملكي، ولو شئتُ حبسته بعيبه، فكذلك الخراج. فقلنا بالقياس على حديث (الخراج بالضمان ) فقلنا: كل ما خرج من ثمرِ حائطٍ اشتريته، أو وَلَدِ ماشيةٍ أو جاريةٍ اشتريتها، فهو مثل الخراج، لأنه حدث في مِلك مشتريه، لا في ملك بائعه. وقلنا في المُصَرَّاة اتباعاً لأمر رسول الله، ولم نقس عليه، وذلك أن الصفقة وقعت على شاة بعينها، فيها لبنٌ محبوس مغيَّب المعنى والقيمة، ونحن نحيط أن لبن الإبل والغنم يختلف، وألبانُ كل واحد منهما يختلف، فلما قضى فيه رسول الله بشيء مؤقَّت، وهو صاعٌ من تمر: قلنا به اتباعاً لأمر رسول الله. قال: فلو اشترى رجل شاة مُصَرَّاة، فَحَلَبها ثم رَضِيَهَا بعد العلم بعيب التصْرِيَة، فأمسكها شهراً حَلَبَها، ثم ظهر منها على عيب دلَّسه له البائعُ غيرِ التصرية: كان له ردُّها، وكان له اللبنُ بغير شيء، بمنزلة الخراج، لأنه لم يقع عليه صفقةُ البيع، وإنما هو حادث في مِلك المشتري، وكان عليه أن يرد فيما أخذ من لبن التَّصْرية صاعاً من تمر، كما قضى به رسول الله. فنكونُ قد قلنا في لبن التصرية خبراً، وفي اللبن بعد التصرية قياساً على (الخراج بالضمان) ولبنُ التصرية مفارقٌ لِلَّبن الحادثِ بعده، لأنه وقعت عليه صفقةُ البيع، واللبنُ بعده حادث في ملك المشتري، لم تقع عليه صفقة البيع. فإن قال قائل: ويكون أمرٌ واحدٌ يؤخذ من وجهين؟ قيل له: نعم، إذا جمَعَ أمرين مختلفين، أو أموراً مختلفة. فإن قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً غيرَ هذا؟ قلت: المرأة تبلغها وفاة زوجها، فتعتد، ثم تتزوج، ويدخل بها الزوج، لها الصَّدَاق، وعليها العِدَّة والولد لاحق، ولا حَدَّ على واحد منهما، ويُفَرَّق بينهما، ولا يتوارثان، وتكون الفُرقة فَسخاً بلا طَلاق. يُحكم له إذا كان ظاهره حلالاً حكمَ الجلال، في ثبوت الصداق والعدة ولحُوق الولد ودَرءِ الحد، وحُكِم عليه إذ كان حراماً في الباطن حُكم الحرام في أن لا يُقَرَّا عليه، ولا تحل له إصابتُها بذلك النكاح إذا علما به، ولا يتوارثان، ولا يكون الفسخُ طلاقاً، لأنها ليست بزوجة. ولهذا أشباهٌ، مثلُ المرأة تَنكح في عدتها.
|